اتفق الفقهاء من مختلف المذاهب على وجوب صيام شهر رمضان برؤية الهلال[1]؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته))[2].
وإنما وقع الخلاف بينهم فيما إذا رُئي الهلال في
بلد ولم يُرَ في بلد آخر، وجملة أقوالهم في ذلك تعود إلى أربعة:
القول الأول: إذا رئي الهلال في بلد لزم جميع البلاد العملُ بهذه الرؤية، والصيام بموجبها،
وهو رأي الحنفية، والحنابلة، واختاره الليث بن سعد، وهذه بعض نصوصهم:
في المذهب الحنفي:
جاء في فتح القدير: ((وإذا ثبت في مصرٍ لزم سائرَ الناس،
فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، في ظاهر المذهب))[3]، وزاد ابن عابدين قوله: ((وهو المعتمد
عندنا))[4].
وفي المذهب الحنبلي:
جاء في الإنصاف: ((قوله: وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد، لزم الناسَ كلَّهم الصومُ، لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره، إن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع، فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا))[5]، وفي المغني: ((وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصومُ، وهذا قول الليث))[6].
وينضم إلى هذا الرأي بعض المالكية وبعض الشافعية؛ ففي المنتقى: (وإذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثم بلغ ذلك أهلَ الكوفة والمدينة واليمن، فالذي رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك: لزمهم الصيامُ، أو القضاء إن فات الأداء)[7].
وفي طرح التثريب للعراقي: (وقال آخرون: إذا رُئي ببلد لزم أهل جميع البلاد الصومُ .. وإليه ذهب القاضي أبو الطيب، والروياني، وقال: إنه ظاهر المذهب، واختاره جميع أصحابنا، وحكاه البغوي عن الشافعي نفسه)[8].
أدلة هذا القول: الكتاب - السنة - المعقول:
1- من الكتاب: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فهذه الآية دليل على وجوب الصيام متى ثبت دخول الشهر بالرؤية، فإذا ثبت برؤية في بلد، لزم الجميعَ الأخذُ بها، ويؤخذ على هذا الاستدلال: أن الآية عامة، ومعناها - كما قال الطبري -: (من دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله)[9].
2- من السنَّة: عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطِروا لرؤيته؛ فإن غمِّي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين))[10]، وجاء في كشاف القناع: أن هذا خطاب للأمة كافة، فمتى ثبتت رؤية الهلال في بلد لزم جميعَ البلدان الأخذُ بهذه الرؤية[11]، ويؤخذ على هذا الاستدلال أن الخطاب موجَّه لأهل كل بلد، فمتى ثبتت الرؤية في بلد لزم جميعَ مَن في البلد الصومُ، ولا يلزم جميع البلاد[12].
3- من المعقول: الشهر اسم لما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر
الأحكام، فيجب صيامه بالنص والإجماع[13]، وما دام قد ثبت أن هذا اليوم من رمضان
بشهادة الثقات عندهم، فكذلك في كل مكان؛ إذ التفرقةُ تحكُّمٌ يحتاج إلى دليل، وليس
ثمة دليل يوجب التخصيص[14].
القول الثاني:
وهو المعتمد في المذهب المالكي، ومضمونه: أن الهلال إذا
رُئي في بلد لزم الصومُ البلادَ القريبة والبعيدة، أما البلاد البعيدة جدًّا فلا
يلزمهم الأخذ بهذه الرؤية.
واستدلوا بما سبق من أدلة الرأي الأول، واستثنوا البلاد البعيدة جدًّا للإجماع[15].
جاء في مواهب الجليل ما خلاصته: أن الحكم بثبوت رمضان يعم
كلَّ مَن نُقل إليه، إذا نُقل بشهادة عدلينِ، أو نُقل باستفاضة، وأجمعوا على عدم
لحوق رؤيتِه ما بعُد؛ كالأندلس من خراسان[16].
القول الثالث:
إذا رئي الهلال في بلد لزم الصومُ ما قرُب من البلدان دون
ما بعُد، وهذا قول جمهور الشافعية، وقول عند الحنابلة، وقال به بعض الحنفية وبعض
المالكية، وهذه بعضُ نصوصهم:
في المذهب الشافعي:
ورد في المجموع: (إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يرَوْه في غيره، فإنْ تقارَب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهلَ البلد الآخر الصومُ بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين، أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى)[17].
في المذهب الحنبلي:
في الإنصاف: (وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناسَ كلَّهم الصومُ، لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: إن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا ... وقيل: تلزم مَن قارب مطلعهم، اختاره شيخنا - يعني به الشيخ تقي الدين، وقال في الفروع: وقال شيخنا - يعني به الشيخ تقي الدين -: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا)[18].
في المذهب الحنفي:
قال الزيلعي: (ولا عبرة باختلاف المطالع، وقيل: يعتبر .. والأشبه: أنه يُعتبَر؛ لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم، وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار)[19].
في المذهب المالكي:
ذكر ابن عبدالبر أن بعض العلماء قال باعتبار اختلاف المطالع، وأن بعضهم قال بعدم اعتباره، ثم قال: (إلى القول الأول أذهب؛ لأن فيه أثرًا مرفوعًا، وهو حديث حسَن تلزم به الحجةُ، وهو قول صاحبٍ كبير لا مخالفَ له من الصحابة، وقول طائفة من التابعين، ومع هذا: إن النظر يدل عليه عندي)[20].
أدلة هذا القول:
عمدة الاستدلال للقول الثالث حديث كريب، الذي رواه مسلم[21]، وأن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجه الاستدلال:
أن ابن عباس وأهلَ المدينة لم يعتدُّوا برؤية أهل الشام، وقول ابن عباس: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يدل على أن هذا ليس من اجتهاده، وإنما هو امتثال لِما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا الحديث حجة في عدم اعتبار رؤية البلدان المتباعدة، وأن لأهل كل بلد رؤيتَهم[22].
ناقش المخالفون حديث كريب من وجهين:
1- يحمل الحديث على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده، بل لا بد من شهادة رجُلين، أو استفاضة.
2- الحجة إنما تكون في المرفوع من رواية ابن عباس، وليس في اجتهاده، وهذا المرفوع
يخالفه حديثٌ صحيح - تقوم به الحجة - وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل
السنن بلفظ: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتى تروه؛ فإن غُمَّ عليكم
فأكملوا العدة ثلاثين))[23]، وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة
الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين؛ فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل
بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم[24].
القول الرابع:
قال به عكرمة - مولى ابن عباس - والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وإسحاق بن راهويه: أن لكل بلد رؤيته الخاصة به، ولا يلزم برؤية غيره، واستدلوا على ذلك بحديث كريب المتقدم[25].
خلاصة وترجيح:
يمكن رد الأقوال الفقهية في مسألة المطالع إلى اتجاهين:
أولهما: لا يعتد باختلاف المطالع؛ فإذا رئي الهلال في بلد لزم جميعَ البلاد العملُ بهذه الرؤية، وهذا هو المشهور عند الحنفية والحنابلة، واختاره الليث بن سعد، وحكاه البغوي عن الشافعي، وإليه ذهب القاضي أبو الطيب، والروياني وقال: إنه ظاهر المذهب، واختاره جميع أصحابنا، وهو ما رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك، ويمكن أن نقول: إنه رأي المالكية، بعد أن نقلنا عدم ثبوت ما ادعَوْه من الإجماع على عدم لحوق رؤية الهلال ما بعُد من البلاد؛ كالأندلس من خراسان.
والاتجاه الآخر: يعتد باختلاف المطالع، فلا يلتزم أهلُ البلد الذي لم يَرَ الهلال برؤية غيرهم، إلا إذا كان بين البلدين تقارُب، حدده البعض بحسب مطالع الشمس والقمر، وحدده البعض الآخر بحسب الأقاليم، ورأى بعضهم تحديده بمسافة القصر، وهذا الاتجاه يمثل قول جمهور الشافعية، وهو قول عند الحنابلة، وأخذ به بعض الحنفية وبعض المالكية، ويمكن أن نضم إليه ما نقل عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق.
وبناءً على ذلك نقول: إن مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو
عدم اعتباره من المسائل الاجتهادية التي يسُوغ الخلاف فيها، ولا يرجح الدليل أحد
الاتجاهين على الآخر؛ لتقارب الأدلة، ومع ذلك فإني أميل إلى الاتجاه الذي يعتبر
اختلاف المطالع؛ لأنه يضم ابن عباس - حبر الأمة وترجمان القرآن - وعكرمة والقاسم
وسالِمًا وإسحاق، وهو قول جمهور الشافعية، وقول في المذهب الحنبلي، وبه قال بعض
الحنفية - منهم الزيلعي - وبعض المالكية - منهم ابن عبدالبر - وهذا هو المتبادر
إلى الفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن
غُمِّي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين))؛ ذلك أن الهلال لا يظهر - في نفس الوقت - لكل
أهل الأرض، ولا يحجبه الغيم عن كل أهل الأرض، فتكون لكل بلد رؤيته، وفق الضوابط
الآتية[26]:
1- أن الشمس والقمر وسائر الكواكب إذا طلعت على بلد واقع على أحد خطوط الطول - ممتدًّا من الشمال إلى الجنوب - كانت مشرقة على جميع البلدان الواقعة على هذا الخط.
2- كل البلاد الواقعة غربي هذا الخط يكون الهلال ثابتًا عندها - مهما اختلفت المطالع - وكلما كانت البلاد أشد بُعدًا من جهة الغرب، كان الهلال أظهر.
3- متى ابتدأت رؤية الهلال على خط من خطوط الطول، فجميع البلاد التي تقع شرقه لا يكون الهلال ظاهرًا فيها، ولا يرى إلا في الليلة التالية، وعلى هذا يفسر حديث كريب؛ حيث رأى الهلال في دمشق (45 درجة - خط الطول الشرقي من جرينتش) ليلة الجمعة، ورآه أهل المدينة (50 درجة - خط الطول الشرقي) ليلة السبت.
4- لا اختلاف بين أهل الأرض قاطبة في رؤية الهلال
إلا بليلة واحدة فقط؛ لأن الهلال إذا ظهر في بلدة ولم يظهر فيما قبلها، فإنه يتم
دورته بعد أربع وعشرين ساعة، فيراه جميع سكان المعمورة.
المراجع :
[1] المرداوي، الإنصاف بتحقيق التركي: 1419هـ -
1998م، ج 7 ص 335 (لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه).
[2] رواه مسلم، في باب وجوب صوم رمضان لرؤية
الهلال، من كتاب الصيام: 2/ 759.
[3] ابن الهمام، فتح القدير، ط 1397هـ - 1977م، ج
2/ 243.
[4]ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 2/ 393.
[5]المرداوي، الإنصاف: 7/ 335 - 336.
[6]ابن قدامة، المغني بتحقيق التركي والحلو:
1417هـ - 1997، ج 4 ص 328.
[7]الباجي، المنتقى شرح الموطأ، ط. دار الكتاب
الإسلامي: 2/ 37.
[8] العراقي، طرح التثريب، ط. دار الفكر العربي:
4/ 116.
[9]الطبري، جامع البيان: 2/ 146.
[10] البخاري مع الفتح: 4/ 119، ومسلم بشرح النووي:
7/ 193.
[11]البهوتي، كشاف القناع: 2/ 303.
[12]ابن حجر، فتح الباري: 4/ 123.
[13]ابن قدامة، المغني: 4/ 329.
[14]الدريني، الفقه الإسلامي المقارن، ص 572.
[15]ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 89.
[16]الحطاب، مواهب الجليل: 3/ 284.
[17]النووي، المجموع: 6/ 280 - 281.
[18] المرداوي، الإنصاف: 7/ 335 - 336.
[19]الزيلعي، تبيين الحقائق: 1/ 321، وفي شرح فتح
القدير مثل ذلك: 2/ 213.
[20]ابن عبدالبر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني
والأسانيد، ط. الفاروق الحديثة: 1422هـ: 7/ 159 - 160، ومثل ذلك في المنتقى: 2/
37.
[21]صحيح مسلم، كتاب الصيام (ح 1087)، ومسلم بشرح
النووي (7/ 197)، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم الهلال.
[22]القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 2/ 295.
[23] البخاري مع الفتح: 4/ 119 - 120، مسلم بشرح
النووي: 7/ 189 - 194.
[24]الشوكاني، نيل الأوطار: 4/ 195.
[25]ابن قدامة: المغني: 4/ 328.
[26]أحمد الفريح، أحكام الأهلة والآثار المترتبة
عليها، غير منشور، الرياض: 1426هـ، ص 179 - 180، نقلًا عن رسالة الهلال لطنطاوي
جوهري، ص 38 - 40. اختلاف المطالع من الناحية الفقهية (alukah.net)
المصدر
: